جرائم إسرائيل و"داعش"- انكشاف زيف الإرهاب واستغلاله.

المؤلف: د. ياسين أقطاي11.07.2025
جرائم إسرائيل و"داعش"- انكشاف زيف الإرهاب واستغلاله.

تواجه إسرائيل، في مرأى ومسمع العالم بأسره، حالة من التدهور الأخلاقي والقيمي العميق، نتيجة لما تقترفه من أعمال إبادة جماعية في غزة، فضلًا عن سائر الجرائم الفظيعة التي ترتكبها في حق الإنسانية جمعاء. إن محاولات تبرير هذه الأعمال الهمجية البشعة بالهجمات التي نفذتها حركة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023، لم تعد مقنعة لأحد باستثناء إسرائيل نفسها. فليس هناك مبرر، بأي حال من الأحوال، لقتلها المتعمد والوحشي لما يناهز 33 ألف شخص من الأبرياء العزل، بمن فيهم الأطفال والشيوخ والمدنيون والنساء والصحفيون والأطقم الطبية ورجال الدين. هذه الأعمال الوحشية المستمرة منذ قرابة ستة أشهر لم تفضِ إلا إلى تبديد كامل لرصيد الذرائع الوجودية التي طالما استندت إليها إسرائيل، والتي قامت ببنائها على مر السنين مستغلة أدبيات الهولوكوست. وعلى عكس ما تأمله إسرائيل، فإن استمرار هذه الاعتداءات الوحشية يؤدي إلى تعزيز شرعية حركة حماس ومصداقيتها، ويزيد من حجم التعاطف العالمي معها ومع الإسلام ككل.

لم تنجح العملية العسكرية الجارية في غزة في القضاء على الربط الخبيث والزائف بين الإسلام والإرهاب، والذي يمثل أحد أهم المكونات الأساسية للخطاب الإسرائيلي والأميركي والأوروبي حول الإسلام والشرق الأوسط فحسب، بل إن الأمور قد انقلبت رأسًا على عقب، وأصبحت قصص الوحشية والهمجية التي تمارسها إسرائيل والغرب هي الأكثر إثارة لاهتمام العالم منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، بل إنها باتت تشكل مادة إخبارية أكثر انتشارًا وتأثيرًا من الادعاءات الباطلة التي ألصقوها بالإسلام.

لقد أصبحت المقاومة التي تبديها حماس مقاومة مُبرَّرة وتنال تعاطفًا واسعًا، بينما بات حكم العصابات والإرهاب الذي تمارسه إسرائيل أمرًا جليًّا وواضحًا للعيان. وأصبح جليًّا للجميع كيف تغض الولايات المتحدة وأوروبا الطرف عن آلاف الجرائم التي يرتكبها تنظيم داعش في استوديوهات التصوير، بينما تنطلق آلة القتل الوحشي في مواجهة ملايين المسلمين باسم الولايات المتحدة أو إسرائيل في العراق وأفغانستان وسوريا.

لقد وصلنا إلى نقطة لم تعد فيها حكايات "الإرهاب الإسلامي"، التي تُستخدم كذريعة واهية لتبرير الإمبريالية الغربية، مقبولة أو موثوقة حتى لدى الجمهور الغربي نفسه. وبات بإمكاننا القول بثقة إن تلك السردية التي تربط الإسلام بالإرهاب لم تكن السردية الوحيدة التي انهارت أمام الإبادة الجماعية التي تجري في غزة بدعم كامل وغير محدود من الولايات المتحدة، بل وصلنا إلى نقطة استنفدت فيها كل السرديات الاستشراقية التي كانت توفر الأساس النظري للأيديولوجية الإمبريالية على مدى ثلاثمائة عام.

 

وكما هو الحال في جميع المشاهد السابقة، فقد دخل تنظيم "داعش" إلى المسرح ليلعب دورًا مفيدًا للولايات المتحدة وإسرائيل، ولكن حساباتهم باءت بالفشل هذه المرة، لأنه حتى العروض المسرحية للوحشية التي يمارسها "داعش" لم تعد قادرة على التغطية على الوحشية الحقيقية لإسرائيل. بل على العكس تمامًا، يُنظر الآن إلى "داعش" باعتباره علامة سوداء في سجل هاتين الدولتين.

"داعش" من جديد

في هذا السياق تحديدًا، بدا توقيت الهجوم الإرهابي الذي وقع في أواخر شهر مارس/آذار في أحد المراكز الترفيهية الهامة في العاصمة الروسية موسكو مثيرًا للريبة والدهشة. والأمر الأكثر غرابة هو إعلان الولايات المتحدة عن تلقيها معلومات استخباراتية منذ فترة طويلة بشأن هذا الهجوم الذي تبناه تنظيم داعش، الأمر الذي يثير تساؤلات جدية حول الجهة التي تقف وراء هذا الهجوم، وما هي الدوافع والأهداف الكامنة وراءه.

بالتأمل في نموذج "داعش" وحده، يمكننا أن نلاحظ كيف أصبحت فزاعة "الإرهاب الإسلامي" التي تسوقها كل من إسرائيل والغرب مكشوفة الزيف وباتت تتسم بالهشاشة والضعف. فهل هناك من لا يعرف حتى الآن من هو تنظيم داعش؟ ومن الذي قام بصناعته وتمويله؟ ومن الذي يستفيد من وجوده ويجني ثمار جهوده الإجرامية؟

لا نزال نذكر كيف دخلت الولايات المتحدة إلى الأراضي السورية تحت ذريعة القضاء على نظام الرئيس بشار الأسد الذي يقتل شعبه بوحشية، ولكن بعد أن دخلت القوات الأميركية البلاد عبر ممر آمن أمّنه تحالف دولي عسكري، تحول هدفهم فجأة ليصبح محاربة تنظيم الدولة الإسلامية المعروف باسم "داعش" هي القضية الأهم، وتلاشى مشروع القضاء على نظام الأسد، بل واستقرت الأمور لصالحه. بالنسبة للمعسكر الغربي، كانت المعادلة واضحة تمامًا، فرحيل الأسد وتسليم السلطة للشعب السوري يشكلان خطرًا أمنيًا كبيرًا على إسرائيل لا يمكن السماح به بأي حال من الأحوال.

لقد عملت الولايات المتحدة الأميركية وتنظيم داعش جنبًا إلى جنب وبتنسيق كامل في القتال ضد الشعب السوري المغلوب على أمره -ضحية الأسد- بدلًا من أن يقاتلا الأسد نفسه، وعندما أصبح وجود مقاتلي داعش يفوق حاجة الساحة السورية، قامت الولايات المتحدة بنفسها بنقل أعضاء فرع "داعش" في خراسان بطائراتها إلى أفغانستان ليقوموا بقتال حركة "طالبان"، العدو اللدود لأميركا، ولكن الأخيرة لم تكن لقمة سائغة، ورغم ذلك، لا يزال أعضاء هذا التنظيم الإرهابي يتربصون هناك في انتظار فرصة سانحة لتقويض الاستقرار والأمان الذي بدأت البلاد تنعم به مؤخرًا.

هناك معلومات موثوقة ومتواترة لا تدع مجالًا للشك حول طبيعة العلاقة الوطيدة التي تربط بين تنظيم "داعش" والولايات المتحدة في كل من العراق وأفغانستان وسوريا. وعلى الرغم من ذلك، ما زالت أميركا تحاول جاهدة استخدام هذه الورقة المكشوفة في موسكو لحشد الدعم والتأييد ضد عدو وهمي لا وجود له على أرض الواقع.

قد تكون للحادثة الأخيرة علاقة بالأزمة الأوكرانية كما يُشاع، ولكن ما الذي يمكن أن تكسبه أوكرانيا من وراء ذلك؟ أو قد يكون لها دور في رسم سياسات أميركية جديدة تجاه منطقة الشرق الأوسط والدول الإسلامية. وكما هو معلوم للجميع، فإن قادة الدول الإسلامية يميلون إلى تصديق أكاذيب الولايات المتحدة وتأكيدها أكثر من التحقق من صحتها. ويبدو أن عمليات التشويه التي استخدمت وحشية داعش للنيل من الحركات الإسلامية الديمقراطية المعتدلة تثير سعادة بالغة لدى قادة العالم العربي، فقد مكنتهم من الحفاظ على تعزيز سلطتهم الاستبدادية ضد معارضيهم السياسيين. ولا يبدو أنهم يكترثون حتى بمجرد التفكير فيما إذا كانت الولايات المتحدة أو إسرائيل تقفان وراء "داعش" فعلًا. إنهم يعتبرون أن أي قصة ترويها الولايات المتحدة هي بمثابة دعامة أساسية لوجودهم أيضًا.

ولكن هذه المرة، وفي قلب موسكو، كان فلاديمير بوتين هو الهدف الأساسي من القصة التي يتم الترويج لها عبر تنظيم داعش. وهو -على عكس القادة العرب- الشخص الذي يستحيل عليه أن يخطئ في تحديد هوية المنفذين الحقيقيين والأهداف الكامنة وراء هذا الهجوم.

بوتين، الذي أدرك منذ الوهلة الأولى كيف حاولت عملية اغتيال السفير الروسي في أنقرة قبل سنوات التلاعب بالأحداث وتوجيهها نحو مسارات معينة، وقال وقتها إنه يرى بوضوح ما الذي يُراد فعله من خلال تلك الحادثة، يرى بوضوح الآن أيضًا كيف يُراد التلاعب بالأحداث، وإلى أي جهة يُراد توجيهها ودفعها.

إن محاولة ضرب موسكو -عدو الولايات المتحدة- في هذه الأيام عبر فزاعة الإرهاب الإسلامي، تهدف في جملة ما تهدف إليه إلى تشتيت الانتباه والتركيز عن إسرائيل، التي تستحق عن جدارة واستحقاق أن تتصدر قائمة الخزي والعار بتهم الإرهاب والعنف والوحشية والبربرية، وذلك بسبب الجرائم المروعة التي ترتكبها في حق الإنسانية جمعاء على مرأى ومسمع من العالم أجمع منذ ستة أشهر.

وكما هو الحال في جميع المشاهد السابقة، فقد دخل تنظيم "داعش" إلى المسرح ليلعب دورًا "مفيدًا" أو "يُتوقع أن يكون مفيدًا" لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل. تلك هي حساباتهم الخاطئة التي باءت بالفشل هذه المرة، لأنه حتى العروض المسرحية للوحشية التي يمارسها "داعش" لم تعد قادرة على التغطية على الوحشية الحقيقية لإسرائيل. بل على العكس تمامًا، يُنظر الآن إلى وحشيتها باعتبارها وصمة عار سوداء في سجل هاتين الدولتين.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة